" بتصــــــــرف"
جاءني عطاء الله السمرقندي ، فبات عندي ، وكان أحد المحدثين ، ويكره الُمحْدِثين في الدين ، فقلنا : أيها الإمام ، عليك السلام : الوقت حثيث ، فحدثنا عن علم الحديث ، فتأوّه ثم قال : مات حفاظه ، فكادت تنسى ألفاظهُ ، ، وأهل الحديث هم الركب الأخيار ، أحباب المختار ، قوم تصدقوا بالأعمار على الآثار ، وقضوا الحياة في الأسفار ، لجمع كلام صفوة الأبرار :
في كل يوم لنا في الأرض مرتحل نغدو بدار ونمسي بعد في دار
شدّوا العمائم ، وجدّوا في العزائم ، وتسلحوا بالصبر الدائم ، فلو رأيتهم وقد فتحوا الدفاتر ، وقربوا المحابر ، وكتبوا : حدثنا مسدّد بن مسرهد ، أو رواه أحمد في المسند ، أو أخرجه البخاري ، وشرحه في فتح الباري ، لهانت عندك الدنيا بما فيها ، وركبت سفينة الحديث وناديت باسم الله مجراها .
يفوح من فم المحدث المسك التِّبتي ، لأن عليه سيماء ( نضَّر الله ، امرأً سمع مني مقالتي ) أنفاس المحدثين تنضح بالطيب ، لأنها حملت اسم الحبيب :
بنفسي ذاك المحدث إذا جلس على الكرسي ، وقد حف به الطلاب ، ونشر الكتاب ثم قال : حدثنا محمد بن شهاب ، عندها يرتحل قلبك ، ويكاد يطير لبك ، شوقاً لصاحب التركة ، لما جعل الله في كلامه من البركة .
قال الشافعي : إذا رأيت محدثا فكأني رأيت أحد أصحاب محمد ، قلت : لأن نهجهم مسدد ، وعلمهم من الله مؤيد .
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا .
ما أحسن الضم والعناق ، لجملة حدثنا عبد الرزاق ، كلما قلت أخبرنا علي بن المديني ، حفظت ديني ، سهمي لكل مبتدع يسدد ، إذا قلت حدثنا مسدد بن مسرهد .
أشرقت أمامي المسالك ، كلما قرأت موطأ مالك ، سقيم الإرادة العلمية له علاج ، عند مسلم بن الحجاج ، أدْمغُ كل منحرف بذي ، بسنن الترمذي ، أنا في صباحي ومسائي ، أدعو للنسائي .
دخل مكحول القرى والبوادي ، وطاف على النوادي ، وعبر كل وادي ، يطلب حديث النبي الهادي ، فصار ريحانة الشام ، وشيخ الإسلام .
ومشى أبو حاتم ، ألف فرسخ على الأقدام ، لطلب حديث سيد الأنـام ، فأصبح بذلك أحد الأعلام .
تهون خطانا للمحب فلو مشى إليكم فؤادي كان أبرد للشوقِ
المحدثون هم عسكر الرسالة ، وجنود البسالة ، ظهروا على البدع بكتائب حدثنا ، وسحقوا الملاحدة بجيوش أخبرنا .
لولا كتابة الحديث في الدفاتر ، وحمل المحدّثين للمحابر ، لخطب الدجَّال على المنابر
الله كم من أنف لمبتدع أرغم بصحيح البخاري ، وكم من صدر لمخالف ضاق بفتح الباري .
الحديث كسفينة نوح فيها من كل زوجين اثنين : رواية ودراية ، بداية ونهاية ، متون وأسانيد ، صحاح ومسانيد ، تراجم ومعاجم ..
المحدِثّون محمد r رئيسهم ، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، ليتني خسرت ذهباً مثل ثهلان ، بمجلس واحد مع سفيان .
المحدثون بيوتهم المساجد ، وعصى التسيار التوكل ، وزادهم التقوى ، وكلامهم حدثنا وأخبرنا ، ويريدون وجهه ، والمطلب الجنة ، والمقصد رضوان الله ، والعمل الذب عن الملة ، والنسبة محمديّون .
هذه الطائفة : (( دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ، ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) .
سلام على المحدِّثين ، ورحمة رب العالمين ، ورضوان عليهم في الخالدين ، وجمعنا بهم في الصالحين ، وإلى لقاء بعد حين :
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
د/ عـــائض القـــرني