مثقفون ..
يقال " إذا أردت أن تقيّم حضارة أمة ما .. فأنظر كيف يعامل العامة من تلك الأمة مثقفيها " .. وقياسا على ماقاله هوين ، عمدت إلى محاولة تقييم لحضارتي الغرب والعرب المعاصرة ، وذلك من خلال قراءة السلوك الإنساني الذي يسلك تجاه المثقف من قبل العوام في كلتا الحضارتين . وفوجئت بالنتيجة ! لقد أوصلني تأملي الى أن هناك عدة حضارات داخل الحضارة المعاصرة الواحدة ، وأنه من الظلم أن نتحدث عن حضارة الشرق أو الغرب باللفظ المفرد ، و الأجدى بنا أن نتحدث عن حضارات الشرق والغرب ، وبلفظ الجمع .
إن من يتأمل معي ( من الرايقين ) قليلا في مفهوم الثقافة ، يرى بأنه مفهوم شامل يتناول جوانب عدة من الفكر الإنساني ، أولها الإيمان ، وآخرها العبث . وكلمة (المثقف ) كلغة ، تأتي على وزن (المفعل ) أي الذي تم تفعيله .. بمعنى أن هناك ( فاعل ) لذلك الفعل .. أو ثاقف صنع المثقف ، ولعله الوعي . وكلمة المثقف – بناء على قاعدة (المفعل ) – تأتي على وزن وعكس كلمة (المُجهّل ) نمطا ومعنى . و(المجهل )هو الذي تم تجهيله .. وتأتي كلمة (ثقف ) بمعنى وجد بعد بحث ، وتأتي ( الثقف ) بمعنى الخطف بهدوء ولمرة واحدة. وعليه ، يمكن القول بأن المثقف هو من يجد الفكرة بعد بحث ، ومن يخطف –بتأني - من كل علم خطفة .
والمثقف ذو شخصيتين ، شخصية داخلية ، وتسمى (الثاقف) -وهو الذي يصنع سمة الثقافة – وتتسم تلك الشخصية بالعمق ، وبدوام التساؤل ، وبالرغبة في العمل التطوعي ، والعطاء . أما الشخصية الأخرى ، فهي خارجية ، وتسمى (المثقف ) -وهو الذي يحمل ثمار ( الثقف ) كما يحمل (المجهّل ) ثمار (الجهْل) - وتتسم شخصية المثقف بالثراء الفكري وبالتواضع والحياء .
والمثقف يختلف عن الأكاديمي ، فالأكاديمي عادة مايتوقف عند جزيرة علمية واحدة ، ويلقي فيها مراسيه . أما المثقف فلا يكاد يصل إلى جزيرة حتى يعد العدة للابحار من جديد نحو جزيرة أخرى ، وهكذا . ومن هنا يمكن لنا أن نقول بأنه ينبغي بأن يكون كل مثقف أكاديمي .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل أكاديمي مثقف .. كيف ؟ . لقد درج لدى العامة بأن من حمل شهادة في علم ما قد أصبح مثقفا . وبالتالي فإنهم ينتظرون منه العديد من الاجابات على العديد من التساؤلات .. فإن كان شامل المعرفة فقد أبرا وشفى ، وان كان ذو نطاق ومحدودية ،فالأولى به أن يعتذر عن الإجابة .. لكي لا تتهم الثقافة ، فيصيبها مايصيبها من نزَك وامتهان .. وابحر الى ماشئت .
ولكن .. كيف هو حال المثقف في العالم العربي ؟ ، وكيف هو حاله في العالم الغربي ؟ . ان الاجابة ليس بتلك الصعوبة .. فقط أنظر إلى مافعلته بعض النظم الدكتاتورية بمثقفيها ومفكريها من امتهان وتهجير وزج في السجون وتصفيات الخ ، وأنظر في الوقت نفسه إلى بعض النظم الأخرى العادلة التي أعلت من شأن مفكريها ومثقفيها من تكريم واستشارة وتشجيع ودعم الخ . لتجد بأن هناك حضارتين متجاورتين داخل نطاق الحضارة الواحدة ، حضارة رقي ، وحضارة سقوط . ولو تعمقت قليلا في داخل تلك الحضارة أو تلك ، وتطلعت إلى العامة وكيف هوحال المثقف بينهم .. لرأيت العجب العجاب ! فمن القاب المثقف لدى عوام القاع مثلا ( المتفلسف ) و ( الثرثار ) و ( المغرور ) و ( المعقد ) و ( المنافق ) الخ ،ومن القابه أيضا لدى جيرانهم في الدور أو في الجهة ( الفاهم ) و (الواعي ) و ( الناضج ) و ( القاري ) الخ .. و تطول القائمة .
في الغرب الأمر مختلف .. فالمثقف هناك محترم على كل حال ، وان لم يجد من يستمع اليه ، الا في مناسبات التكريم أو (المسرحيات ) الفكرية التي يمارسها الغرب كلون من الوان الرقي والتحضر الزائف .. ! وهوعادة ما يجل (المثقف ) ظاهريا ، ويستغل (الأكاديمي ) حقيقة . فالغرب الذي تعصف به تيارات الانحلال ، وأهواء الغطرسة ، ومظاهر (التوثن ) .. يتباهى بمثقفيه الذين يدعون الى الأخلاق الفاضلة ، والى السلام بدلا عن الحرب ، والى المساواة بدلا عن العنصرية .. ولكنه لا يفعل مما يتباهى به شيئا . كما أنه يماري بأكاديمييه الذين يصنعون السلاح ، وعتاد السيطرة والتسيد ، و(أكاسير الحياة ) وهي ممارات مخجلة ، لأنها قائمة على المصلحة فقط دون الجدية في حقيقة التقدير ! وهو الأمر الذي ينطبق عليه المثل المصري القائل ( أسمع كلامك أصدقك ، أشوف أمورك أستعجب ) .. وأنا صدقوني والى هذه اللحظات في حالة (استعجاب ) فلا تلوموني .
داخل كل حضارة عناكب حضارية ونسيج معقد من الجهل والوعي ، ومن التخلف والتقدم ، ومن الأضداد بشكل عام .. ليس هناك وحدة حضارية شرقية أو غربية واحدة .. هناك تمزق ، تشرذم ، غرور ، وجهوية . هناك مبارزات كلامية وصراعات لفظية بين جماعات من النقلة ، والأكاديميين ، والمنتفعين لا ترتقي إلا نادرا إلى مستوى الثقافة الحقة .
حضارتنا العربية – أيها السادة – أم لحضارات متعددة الأعراق ، فهناك حضارة الجبال ، وهناك حضارة الصحراء ، وهناك حضارة النهر ، وهناك حضارة التلون .. وكل حضارة يدعي منسوبيها بأنهم حملة مشاعل الفكر ، وبأنهم الأكثر وعيا ، وبأن الله قد أرسلهم لتخليص البشرية ، وبأنهم الأصدق .. و ( بأنهُمات ) كثيرة .. هذا ما استطعت فهمه من خلال تطبيقه من خلال المقولة التي وردت في أول المقال – على واقع الحال ، وهو اجتهاد خاص قد يصيب وقد لا يصيب ، فاجتهدوا يرحمكم الله .