أعيدوني إلى قبري !

في ضحى يومُ صيفيٌ حارق ، لفظتْ الأرضُ المهلهل بعد أن حملهُ بطنها
ألف وخمس مائة عام . فخرجَ ينفضُ الغبار عن نفسه ، وينظر إلى جهات
الأرضِ الأربع ، وهو كالتائه في أرضٍ فلاة . واتبع الشمس في رحلتها إلى الغروب
عسى أن تقوده إلى قريةٍ يستطعم أهلها ويستكسيهم .
وترأى له في الأفق قطيع من الأبل يذودها راعٍ فوق راحلته ، فسـار إليه متلهفاً ، كلهفة
عاشقة رأت معشوقها بعد طول غياب .
وصل المهلهل إليه يلهث ، كلهث كلبٍ بوليسي تعود ملكيته إلى المخابرات الإمريكيه
وقف أمام راحلة الراعي ، يستجمع أنفاسه ، وبعد أن عاد إليه نفسه ، وذهبة عنه لهثة
قال لراعي الإبل ِ : يا أخ العرب ، إنني المهلهل بن ربيعة ، عدت إلى الحياة ، ولا أعلم أين
أنا فدلني على ديار بني تغلب ، وأكون لكَ من الشاكري.
فهز راعي الأبل رأسه وقال : اس فيه ، ايس كلام !!!
- والله إني لأعرف قبائل العرب ولهجاتهم ، ولم أعرف لهجتك فمن أي الناس أنت ؟ أأنت من تميمٍ
أو من هوازن ، أو أنك أعجمي ؟
- صديق أنا ما في معلوم كلام انت ، أنت روح هناك فيه نفر سوي كلام ! وأشار الراعي بيده
إلى صهريج ماء خلفه حوله تجتمع بيوت الشعر والخيام . وذهب المهلهل إليها يركض .
وصل المهلهل إلى صهريج الماء ، وإذا بقومٍ وجوههم سمراء ، يرتدون العمائم الحمراء
هيئاتهم رثه ، وأثوابهم متربة كأنما خرجوا من الأرض .
واستقبلوه وأصواتهم تتعالى : " أقلط ، أقلط .. يالله حيه " !
تسمر المهلهل مكانه ، وطَفِقَ يتأمل في كل الأشياء حوله !
صاحوا به آخرى " علامك واقف أقلط يا ولد " !
قال المهلهل بعد أن دهشه ما يراه : يا أيها القوم أأنا في جزيرة العرب ، أم أن الله أخرجني
من أرضٍ غير التي دفنتُ فيها !!
- والله ما نفهم كلامك بس أقلط ، يا محماس عجل القهوه للرجال وقم أذبح له ذبيحة .
إستسلم المهلهل لقدره وسلم نفسه لصبيٍ من القوم أخذه بيده وأجلسه في صدر المجلس .
قدموا له فنجان القهوة ، شرب الفنجان وتغيرت ملامح وجهه وقال لمضيفيه : ما بال خمركم
هذا مرٌ كالعلقم ! أليس عندكم خمرٌ من الزبيب والتمر !
صرخ رجلٌ مسنن في اقصى المجلس : " أطردوه هذا داشر جاين يدور الخمر والمنكر عندنا "
وألتفت إلى المهلهل وقال : " حنا ما عندنا إلا البن اليماني والحيل وعلوم الرجال ، وإلا الخمر
تلقاه عند اللي مثلك يالفاسد " ، " قم إنقلع ، قلع الله هالوجه " !!
بعد أن رأى من ملامح المسن الغضب والحنق ، قال : أهكذا تستقبلون الضيوف ، وتهاجمون العزل
إلي بسيفٍ ، ومن أراد أن تثكله أمه فليخرج لمبارزتي !
أشتعلت الحمية في جوف حفيد المسن حنيما رأى المهلهل ينهر جده ، فنظر إلى المهلهل وقال : " أقطع
وأخس وسقها ، لألعن والدينك " !
صاح الرجال : تعوذوا من أبليس وأتركوا هالمسيكين ( يعنون المهلهل ) !
هدأت الأصوات وكل الحاضرين سكتوا ، وسكت المهلهل معهم .
رجل في المجلس إلتفت إلى من في جنبه ، وهمس في إذهنه : " هرج الرجال هذا غريب : وش تهقاه "
رد عليه صاحبه : " شكله من مخلفات الحجاج ، وجايك منحاش عن الجوازات " !
صغيرٌ لم يتجاوز التاسعة ، قدم إلى أهل المحل من الرياض ، وهو متابع كروي جيد
سمع حديث الرجلين وهمس لهما مازحاً : " أصبروا أيام تشوفون البلوي حاطه في رابطة
مشجعين الأتي " !
رفع المهلهل رأسه بعد أن طال الصمت ، ودق السكوت أوتاده محيطاً بكل الجالسين : يا قوم
أليس فيكم من يروي لنا شيء من الشعر ؟
لم يفهم الشيخ المسن من حديث المهلهل إلا كلمة الشعر ، وكان كافية لأن يفهم أن هذا الزائر
الغثيث يريدٌ أن يروى له الشعر ، فقال المسن : " عطنا أنت من الشعر "
إبتسم المهلهل وقال :
نبئتُ أنَّ النارَ بعدكَ أوقدتْ
وَ استبَّ بعدكَ يا كليبُ المجلسُ
وَ تكلموا في أمرِ كلَّ عظيمة ٍ
لوْ كنتَ شاهدهمْ بها لمْ ينبسوا
وَ إذا تشاءُ رأيتَ وجهاً واضحاً
وَذِرَاعَ بَاكِيَة ٍ عَلَيْهَا بُرْنُسُ
تبكي عليكَ وَ لستُ لائمَ حرة ٍ
تَأْسَى عَلَيْكَ بِعَبْرَة ٍ وَتَنَفَّسُ
لم يصفق أحدٌ من الحاضرين للمهلهل بحرارة ، وبقوا يتغامزون بينهم .
قال الشيخ المسن : " فكنا بس من شعر المصاريه " ، ولم يعرف المهلهل معنى " المصاريه "
لذلك أثر الصمت .
صاح الرجل بإبنه محماس : يا محماس قم قدم الوايت علشان الرجال يغسلون منه بعد العشاء .
وقام محماس وركب " الوايت " وتحرك الوايت !
صاح المهلهل : يا رجال أدرككم غضب الألهة ، فأخذت قصركم ، و ولدكم ونسائكم !
أحد الرجال : أي قصر ؟
المهلهل : هذا القصر الذي يتحرك أمامكم ألا تبصرون ! يا ويلتنا من غضب الألهة .
الشيخ المسن : " يالربع هذا طلع مشرك معلون الوالدين " !
أحد الرجال تفهم الوضع ، وقال للمهلهل أن هذا ليس قصر ، أنه وايت فقـط !
- وايت !!
وما هو وايت ؟!
- يعني سياره
-سيارة !! لم أفهم الأولى حتى أفهم التالية !
- أجل تلايط وفكنا منك خل هالليلة تعدي على خير .
***
وليختصر صاحب المحل الحديث والنزاع صاح فيهم : قوموا على العشاء يا رجال !
وقام الزير إلى حيث قام الناس ، وهو " يدربي رأسه " ، كشاةٍ ضاعت عن قطيعها !
***
بعد العشاء :
المهلهل : والله أن بعد لحم هذا الخروف لم يبقى إلا الشراب والنساء .
الشيخ المسن : ما تهبى ! وش شايفنا تدور عندنا الشراب والنساء !
رح أمرح ورى الوايت ، وإذا أصحبنا أخذناك وحذفناك على جنب الخط وخليناك تنقلع .
***
في صبيحة اليوم التالي أتى ولدٌ للمسن يعمل عسكرياً في الرياض ، وكان قد تابع مسلسل الزير سالم
في كل حلقاته مما شكل لديه خلفية لغوية تكفي للتخاطب مع المهلهل !
- كيف حالك يا يبه ، عساك طيب .
- بخير عساك بخير وجابك الله .
فيه واحدٍ جانا امس وبلشنا فيه والله العالم أنه مصري . رح تفاهم معه " عانه " ورى الوايت !
أنت قم قم !
- ماذا تريد يا فتى ؟ فأنتم قومٌ أعاجم لا تفقهون حديثي ولا أفقه حديثكم فدعوني وشأني ؟
- ماشاء الله مسوي سبويه الولد ؟
- ومن سيبويهٍ هذا ؟
- يعلن شكلك والله أنك تكلم عربي من جد !
- نعم فأنا عربيٌ من بني تغلب ، وأنا المهلهل بن ربيعة ، وأخي هو كليب أبن ربيعة ملك
العرب ، الذي قتله جساس غدراً .. ألا تعلم أين ديار بني بكرٍ يا فتى لكي أخذَ بثأر كليب !
- أنت يالزير في عصر غير اللي كنت فيه ، والدنيا مهيب على خبرك هالحين فيه حكومة
علي الحرام إن ذبحت أحد ليقطعون رأسك بالسيف ، بس ألبخ وابلع العافية .
- ألم يبقى أحدٌ من بني بكر ومن بني تغلب ؟
- لا والله ما باقي إلا ذكرياتهم .
- أخبرني يا فتى عن هذا الزمن وعن القصر الذي يتحرك ، وعن لهجتكم هذه .
- الدعوى مطولة لو أشرح لك يبي لك سنين .
- ويحك يا فتى ؟ فأنا عربي ٌ ما زلت أملك فراسة العرب ، ولست أعجميُ أخرق .
ويكفيني يومٌ لأتعلم كل شيء عن عالمكم هذا ، ألا تعلم يا فتى أنني أنا من وضع القافية في الشعر .
- خلاص ابي اشرح لك والشكوى لله .
وبدأ الفتى يشرح للمهلهل كل شيء عن هذا العصر ، عن السيارات والشوارع والمدن والنظام
والدولة ، واللهجات والقبائل .
وأقترح على المهلهل أن يرافقه إلى الرياض .
في الرياض :
وصل إلى الرياض مع صاحبه وكان مدهوشاً بما يراه من العمران ، وكان أكثر ما لفت إنتباهه
أن هناك أشياءٌ سوداء تمشي على الأرض ، وحينما إستفسر عنها أخبره صاحبه أنهن النساء !
لذلك كان قلبه يخفق في كل مرة يرى فيها شيءً أسود !!
كان المهلهل قد أحاط علماً بكل شيء اللهم إلا نزرٌ قليل غفل عنه صاحبه ، ولم يحدث له منه
ذكرى . فكان يعرف الجوالات والأنترنت والسيارات ، وأشياء آخرى . نوهه لها صاحبه كي لا يصعق
حينما يراها .
( جزء من النص مفقود ) !!
دخل المهلهل إلى السوق يمشي مع صاحبه ، ومال إلى أقرب إمراءة أليها وبدأ يحدثها
- من أي العرب أنتي يا جميلة ؟
- ما تستحي على وجهك ما عندك خوات !!
وسحبه صاحبه خوفاً من مشكلة ، وقال له : إذا بغيت تغازل عطها الرقم وبدون كلام داخل السوق
يا محمد ! لماذا سألتني عن إن كان لدي أخوات ؟ ماذا تريد منهن ؟
- هي ما تبي من خواتك شيء بس يعني مسويه فيها إنها عاقله !!
المهم أنت إذا بغيت بنت عطها رقم الجوال مثل ما قلت لك ، وكلمها بعدين بعيد عن زحمة السوق .
- حسناً حسناً
ومال المهلهل إلى إمراءة آخرى
- أيا أيتها الحسناء هل لكِ أن تأخذي رقم هاتفي ، وتهاتفينني بعيدً عن زحمة السوق .
- استح على وجهك يا واطي ، يا حقير .
عاد صاحبه ليجره إليه مرة آخرى ، ويكمل تعليمه .
- يا مهلهل : أعطها الرقم وأنت ساكت .
- حسناً حسناً ، سحقاً لكم ! وسحقاً لعادات العشق عندكم !
ومال إلى آخرى وألقى إليها الرقم وأخذته وانصرفت .
وبعد أن خرج المهلهل من السوق بدأت رحلته مع المكالمات . وبعد يومين من مكالماته
عاد إلى صاحبه وقال : يا محمد ! إن من أخذت رقمي في السوق ، لم استفد منها إلا أنها
تخبرني بأنها حضرة حفل زواجٍ وأنها كانت أجمل الحاضرات ، وأن صديقتها مشاعل تشاجرت
مع صديقها مشعل . وأن صاحبتها سمر بشعة جداً ، وأن صاحبتها سارة سمينة جداً جداً
وأخبرتني أيضاً أن سبب سمنة سارة ، هو أكثارها من أكل المايونيز " على الريق " كما تقول !
فما هو المايونيز يا أحمد ! وما شأني أنا بكل هذه الأخبار التي تسردها علي تلك الفتاة !
- يالليل النشبة منك أنت وإستفساراتك ! خلاص ماني معلمك !
المهم تعال خلني أوريك المنتدى اللي أنا أدخل فيه في الأنترنت .
- أحمد أدخل إلى هذا القسم المكتوب عليه " القسم الأدبي " ، ودعني أقرأ فأنا أحب الأدب
فتح أحمد للمهلهل أحد مواضيع قسم الأدب ، وكان عبارة عن خاطرة لفتاةٍ عنونتها بـ" وترحل " !!
قرأ المهلهل أول سطرين منها ، وطلب من أحمدَ إغلاقها .
- أحمد أهكذا هو الأدب عندكم ، نص هذه الفتاة كان ركيكٌ كأن من كتبه أعجمي تعلم اللغة العربية
وليس من أهلها .
أحمد هل أخبرتني بشيء من شعركم !
- أبشر يقول :
لا ضاق صدرك وأنت قلبك هواوي
إزبن على قومٍ للأجواد مدهال
اللي لكيف الرأس معهم حراوي
أهل المتبل والمشاوي والأوصال
وشقر البنات محذفات الغطاوي
اللي لهن بالشام مربى ومنزال !!
أحمد ... أعدني إلى قبري !!
فالحياة عندكم بنيت على الخديعة ، فالفتاة في السوق تمثل دور الشريفة أمام الناس
بينما تكون بوجهٍ آخرى خلف الكواليس .
والناس عندكم يقابلونك بوجهٍ غير الذي يستدبرونك به !
وأحاديثكم بنية على الكذب والخديعة ، فكأنما الصدق قطرة ماء عذب في بحر أكاذيبكم .
وخمركم مرٌ كالعلقم .. وثلاثة أرباع شبابكم يتصنعون الأخلاق تصنعاً بينما يزدحم بهم جسر
الملك فهد .
أحمد !! ودني قبري الله يلعن جدك !