الفلسطينيون .. في الأصل و الفصل
بقلم / أحمد صبري الدبش - باحث بمركز إحياء التراث الفلسطيني – المصدر : مجلة القدس
أهمل مؤرّخو الغرب المتخصصون في تاريخ الشرق الأدنى القديم و حضارته ، دراسة التاريخ الفلسطيني ، و لم يخصّصوا في دراستهم الخاصة بشعوب الشرق الأدنى القديم أي ذكرٍ خاصٍ بتاريخ الفلسطينيين في شكل عمل مستقل ، أو حتى في شكل فصل مستقل من فصول الدراسة .
و هذا الإهمال مقصود لذاته بسبب سيطرة المؤرّخين اليهود و الصهاينة على مجال الكتابة التاريخية عن فلسطين ، و لذلك فقد أخرجوا تاريخ الشعب الفلسطيني القديم من دائرة البحث كشعبٍ من شعوب الشرق الأدنى القديم ، و مركّزين تركيزاً شديداً على دراسة تاريخ (الإسرائيليين) ، و ذلك لتأصيل الوجود الصهيوني المزعوم في فلسطين ، باستبعاد الفلسطينيين الذين سميت المنطقة باسمهم .
و يبدأ تاريخ فلسطين عملياً لهؤلاء الكتاب فقط عند بدء تاريخ "إسرائيل" و عندما تصبح فلسطين في وفاقٍ و انسجام تامّين مع "إسرائيل" ، و السبب في ذلك لا يمكن أن نقول إن بؤرة التركيز هي على تاريخ "إسرائيل" ، أو الادعاء بأن سرد هؤلاء المؤرّخين للتاريخ يبدأ عند ظهور "إسرائيل" على مسرح الأحداث ، ذلك لأنهم جميعاً يعالجون فترات ما قبل ظهور "إسرائيل" أو (الإسرائيليين) ، و لكنهم جميعاً يرفضون بثبات استعمال تعبير "الفلسطينيين" للدلالة على المكان، حتى إن استعملوا تعبير فلسطين للدلالة على أشياء جامدة مثل : المكان المادي و الاقتصادي .
إن رفض استعمال صفة واحدة لنعت سكان المنطقة هو إذاً إنكار للوجود و للتاريخ الفلسطيني ، و لهذا فإن فلسطين توصف على أنها منطقة صغيرة و فقيرة و معزولة . و هذه أوصاف شائعة في الدراسات التوراتية ، ثم يتغير هذا الوضع وتصبح فلسطين مرموقة فقط بسبب الوجود التاريخي المزعوم لـ (إسرائيل) فيها ، و على هذا فإن الدراسات التوراتية متورّطة في تجريد الفلسطينيين من وطنهم ، و لهذا مقابل سياسي معاصر متمثل في السيطرة الصهيونية على الأرض و سلب الشعب الفلسطيني من أرضه و تصويره على أنه شعب بلا تاريخ أو تجريده من هذا التاريخ . و هكذا نرى أن الخطاب التوراتي يجعل الفلسطينيين شعباً غير ذي أهمية ، و في نهاية الأمر غير موجود .
يختلف الباحثون و الأثريون حول أصل الفلسطينيين ، فمنهم من يعتبرهم مجموعة من شعوب البحر ، و اعتبرهم آخرون أنهم من سكان فلسطين أصلاً و امتزجوا بمجموعات شعوب البحر الذين أثّروا في حضارتهم ، و أدخلوا عليها مواداً و عادات جديدة أصبحت متميزة في الكثير من مواقع الساحل الفلسطيني الجنوبية ، و ما زال النقاش محتدماً حول موطنهم الأصلي ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أصحاب الرأي الأول غالباً ما كانوا من التوراتيين أو المتأثرين بالدراسات التوراتية التقليدية .
و لهذا ستتناول الأسطر التالية أهم الآراء التي تكوّنت عن الفلسطينيين ، و ذلك بما يسمح به إطار هذه الدراسة ، و ما يتيسّر من معلومات و مصادر تتعلق بهذا الموضوع .
الفلسطينيون في المصادر القديمة :
"الفلسطينيون" مصطلح يطلق على القبائل التي استوطنت شاطئ فلسطين – كنعان - الجنوبي الغربي من غزة جنوباً إلى يافا شمالاً ، و منهم جاءت تسمية فلسطين التي ما زالت مستعملة حتى يومِنا هذا للدلالة على أرض فلسطين الحالية ، و أهم المدن التي استوطنوها (غزة و عسقلان و أشدود و عقرون و جت) و كانت مدن الفلسطينيين هذه على الساحل عدا مدينة "جت" التي كانت تمتد قليلاً إلى الداخل ، و لم يؤسس الفلسطينيون مستعمرات ما عدا مدينتي "اللد" و "صقلغ" في أقصى جنوبي مدينة يهوذا .
وأقدم ذكرٍ للفلسطينيين ورد في النصوص المصرية و الآشورية ، فقد سميت بلادهم باسم "بالاستو" فلسطين Palastu أو بيلسيتوPilistu ، و هو نفس الاصطلاح اليوناني فلستيا Philidtia الذي أصبح باليستينا (فلسطين) ، و قد كثر ذكرهم في التوراة ، فقد سمتهم التوراة كفتورين ، و ذكرت أن وطنهم في جزيرة كفتور المناظرة لكفيتو في المصادر المصرية و التي يقولون إنها جزيرة كريت .
و في التعريف بـ "فلسطين" و "الفلسطينيون" في المصادر اليهودية نجد تعتيماً شديداً و إيهاماً بأن الفلسطينيين شعب غريب ليست له أصول في المنطقة ، ففي دوائر المعارف اليهودية يرد الحديث عن فلسطين و الفلسطينيين في شكل مقتضب و غامض يوحي للقارئ بعدم أهمية المكان و سكانه ، و يؤكّد على عدم أصالته و على كونه شعباً غريباً .
الفلسطينيون من شعوب البحر الأبيض المتوسط تعود أصولهم إلى مواقع في آسيا الصغرى و اليونان و أتوا إلى فلسطين في موجات متعاقبة . و قد أتت إحدى هذه الموجات قبل عصر الآباء ، و استقرت جنوب بئر السبع ، حيث دخلوا في صراع مع إبراهيم و إسحاق ، و أتت موجة أخرى من كريت بعد طردها من مصر على يد رمسيس الثالث في 1194 ق.م فاحتلت المنطقة الساحلية من جنوب فلسطين ، حيث أنشأوا خمس مدن هي : غزة و عسقلان و جت و أشدود و عقرون ، و لأنهم شعب محارب بالفطرة فقد تسيّدوا أجزاء أخرى من يهوذا زمن العصاة و هزموا شاؤول لكن داود هزمهم و وضع نهاية لسيادتهم ، و بعد سقوط المملكة الإسرائيلية استعاد الفلسطينيون استقلالهم ، و لكنهم لم يصبحوا أبداً عاملاً رئيسياً في المنطقة .
و في العصرين الفارسي و اليوناني تغلّب مستوطنون أجانب من جزر البحر المتوسط على المدن الفلسطينية ، و أطلق اليونان منذ هيرودوت اسم فلسطين على هذه المنطقة نسبة إلى الفلسطينيين (فلسطين السورية) ، و في عصر هارديان أطلق الرومان هذا الاسم رسمياً على إقليم يهوذا"(1) .
و قد تطور معنى كلمة فلستي Philistine عبر التاريخ و طرأت عليه تغيرات مهمة : فهي تعني بالنسبة للإنسان الغربي اليوم الفلسطيني القديم ، و تجدر الإشارة إلى أن وصف Philistine يستعمل لوصف الشخص المادي النزعة و الفج المعادي للثقافة ، و هو إنسان محدود الأفق ، و بعيد عن الثقافة الرفيعة كما يعرفه قاموس أكسفورد ، و هو تعريف ينمّ عن تأثير التفسير التوراتي للتاريخ لمصلحة اليهود .
و قد بلغ التشويه إلى حد أن الدعاية الصهيونية روّجت للقصة التوراتية عن جليات و داود ، حيث تصوّر انتصار داود الصغير بالمقلاع على جليات ، و كان من جبابرة الفلستين إذ بلغ طوله أكثر من تسعة أقدام ، و كانت أدواته الحربية مناسبة لطوله و قوته ، و يرى د. عبد الوهاب المسيري في "موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية" أن الدعاية الصهيونية نجحت في ترسيخ صورة داود رمزاً لـ (إسرائيل) ، الذي يستخدم ذكاءه و مهارته في هزيمة عدوه ، مقابل صورة جليات رمزاً للعربي الذي يتسم بضخامة الحجم و كثرة السلاح ، و لكنه لا يستخدم عقله فيُمنى بالهزيمة (2) .
و يجب أن لا نظنّ أن أسلاف عرب فلسطين كانوا يمثّلون البربرية بكل مظاهرها ، لأنهم كانوا فلاحين ، و لأنهم أقاموا على الوثنية أمداً طويلاً ، فيذكر روبنسون : "لقد كان الفلسطينيون يملكون ثقافة متقدّمة و عريقة" ، و يضيف قائلاً : "إنها سخرية عجيبة من سخريات القدر أن كتب على لفظة فلسطيني أن تكون مرادفة لكلمة بربري ، و قد نشأ هذا الاستخدام اللفظي : لأن تاريخ أيامهم وصل إلينا عن طريق (الإسرائيليين) الذين لم يكن في ضميرهم إنصاف لأعدائهم(3).
نظريات حول أصل الفلسطينيين :
يؤرخ جـ. ل. مايزر لأصول الفلسطينيين قائلاً : "إن الزائرين المينيين معروفون زهاء قرن من الزمان في البلاط المصري ، و قد كان المصريون يدعونهم كيفتو حتى عهد أمنحوتب الثالث ، و كانوا يقدمون مصر زائرين و تجاراً و على رؤوسهم تلك الجدائل من الشعر التي كانت إحدى مميزاتهم ، كما كانوا يلبسون جلابيبهم ذوات الألوان الزاهية ، كما كانوا يجلبون معهم أنماطاً من مصوغاتهم الفنية من الذهب و الفضة .
و لكن قدوم الكيفتو Kiftiu انقطع منذ تربع أمنحوتب الثالث على عرش مصر و حلّ محلهم الشاردانا Shardana و الدانونا Danauna و هؤلاء هم رجال حرب سواء كانوا مخاصمين أم مأجورين ، و بعض هؤلاء ألحقوا بالجيش المصري و عهد إليهم أن يمنعوا أبناء جلدتهم من دخول البلاد ، و إذا ما اعتمدنا على رواية مانتيون أحد المؤرخين الوطنيين - فإن أحد هؤلاء الحراس أنفسهم جعل نفسه ملكاً بعض الوقت إبان الفوضى التي كانت سائدة في البلاد عقب وفاة إخناتون حوالي سنة 1365 ، و لم تنقطع شاردانا Shardana عن شن الغارات ، حيث ظلت تقوم بغارات متوالية بين الفينة و الفينة إلى سنة 1200 .
و لم يكونوا منفردين بالإغارة بعد سنة 1300 ، بل أسهم فيها معهم عدد من الشعوب الأخرى ، أخذ في الزيادة فضلاً عن أن غاراتهم كانت أوسع مدى و أبلغ ضرراً ، و أكبر اعتداءين وقعا في عامي 1230 و 1200 ، و كان الاعتداء الأول في عصر مرنفتاح و كان يصحبه غزو من طريق الساحل قام به الليبيون على غرب الدلتا ، و لم ينفرد الليبيون و الشاردانا بالغزو ، بل قام بالغزو كذلك الإخيفاشا Akhaivasha و الشاكلشا Shakalsha و التورشا Tursha و اسم الأول من هؤلاء أصبح منطبقاً في العصر الحاضر على الآخينين Acheans و أواخر هذه الأسماء تشبه النهاية التي في آخر كنوس Cnossus و سجالاسوس Sigalassus و بعض أسماء بلاء أخرى إيجيه ، و الاسمان الأخيران و هما لا يزالان موضع تحقيق و بحث قد زاد الاعتقاد الآن بأنهما مشتقان من أصل إيجي .
و ليس من شك أن هناك اتجاهاً قوياً إلى اعتبار التورشا Tursha هم التورسيني Turseni الذين استوطن بعضهم اترويا Etruria و أن الشاكلشا و الشاردانا أطلقوا أسماءهم على أوطانهم الحديثة كذلك في صقلية و كردينيا .
و وقع اعتداء ثانٍ في السنة الثامنة من حكم رمسيس الثالث اشترك في القيام به قوة برية و قوة بحرية ، و كان مصدرها هذه المرة الجانب السوري ، و كان من بين المعتدين الدانيونا Danauna و الشاكلشا و قد اعتدوا على مصر من قبل و شاركهم التكراي Tikkarai و قبائل أخرى حديثة بعضهم فيما يبدو من الإيجيين و بعضهم من شمال سورية، و من آسيا الصغرى ، و كان منهم قوة من الحيثين ، و لعل الباعث هذه المرة أكثر وضوحاً منه في المرة السابقة .
فإن القوة البرية قدمت تصحبهم أسرهم و متاعهم على مركبات كبيرة ذوات عجل ، و القوة البحرية في سفن شراعية كبيرة ، و في أعلى صواريها علامة الحرب ، و كانت أسطح السفن ملأى بأبطال في عدة طيبة من الأسلحة على حد تعبير أعدائهم الشجعان ، فمن الواضح إذاً أنهم قدموا للاستقرار ، و مع أن ملك مصر حال دون دخولهم على إثر معركة حامية وقعت في جنوب سورية و معركة أخرى بحرية ، فقد كان عليه أن يتصرّف في أمر من لم يقتل من المحاربين ، و في أمر من لم يشترك في القتال كذلك ، و كان يقيم بالسهول الساحلية في فلسطين خليط من الوطنيين و الأجانب ، فامتداد هؤلاء بالفئة الحديثة القادمة يجعل من هؤلاء الأهالي المحبين للحروب المدينين بالولاء لمصر حائلاً دون أي اعتداء على مصر مستقبلاً ، و هذه هي عين السياسة التي جعلت مصر تتخذ من الشاردانا حراساً لها من قرن من الزمان .
و كان اسم أشهر هؤلاء النزلاء البلشتا Pulishta لا يبعد أن يكون هذا اللفظ من الأصل اللغوي للاسم الغامض البلاسجيين Pelasgi و هو اسم نقله الكتاب الإغريق من شعبٍ قديم من القراصنة في المنطقة الإيجية ، و لا ريب في أنه اسم ينطبق على اسم الفلسطينيين و على لفظ فلسطين الذي انتقل من الساحل حتى أطلق على سورية الجنوبية كلها (4) .
و يفترض "جي - إي - رايت" افتراضاً على منوال تاريخ "مايزر" لأصول الفلسطينيين ، فيذكر أن "شعوب البحر المهاجرين قد وطدوا أنفسهم على الساحل الفلسطيني كمستعمرات مرتزقة ، حيث أصبحوا وكلاء ثم خلفاء للسلطة المصرية في فلسطين" (5) .
و قد وصلت إلى أيدي علماء الآثار معلومات وافية عن الفلسطينيين في الكتابات و النقوش التي سجّلها "رمسيس الثالث" علىِ جدران معبد "آمون" في مدينة "هابو" غربي مدينة طيبة ، و قد ملأت هذه الكتابات و النقوش آلافاً من الأقدام المربعة كلها منحوتة على الحجر ، و قد احتوت على سجلٍ كاملٍٍ لحملات الفراعنة و حروبهم .